إشكالية الفصل بين العقل والقلب

٣ ديسمبر ٢٠٢٢
تركي
إشكالية الفصل بين العقل والقلب

لقد جرى فصل "العقل" عن القلب بقدْر لا يقلّ عن فصله عن الحسّ؛ فلما حدّد الفلاسفة العقل بكونه جوهرا قائما بذاته، لم يسعهم إلا أن يجرّدوه من القلب كما جرّدوه من الحس، ذلك أن إناطة العقل بالقلب كإناطته بالحس ينزع عنه صفة القيام بذاته، أي "الجوهرية"، ويسندها بالتالي إلى القلب، وهو ما لا يرتضونه؛ وبهذا أصبح مفهوم "العقل" عندهم مستقلا عن مفهوم "القلب"، وكرسوا هذا الاستقلال بأن خصوا العقل بوظيفة معرفية صرف، في حين خصوا القلب بوظيفة وجدانية صرف، بحيث يكون القلب هو محل العواطف والانفعالات؛ ولئن كان يجوز عند أوائل الفلاسفة اجتماع هاتين الوظيفيتين، فلا يجوز أن تتعلق إحداهما بالأخرى تعلق التابع بالمتبوع؛ أما المتأخرون منهم وخاصة منذ عصر التنوير، فقد رسّخوا هذا الفصل بين العقل والقلب، حتى طار في الناس قول أحدهم -وهو پاسكال- وقد أعطى للوجدان في حياته حظا وافرا لا يقل عن العقل فيها، إذ يقول : "إن للقلب أدلته التي لا يملكها العقل."


أما عند المسلمين، فإذا استثنينا رجال التصوف، فليس في علمائهم من لم يغلب حديثه في العقل على حديثه في القلب، لكي ينتهي، في آخر المطاف، إلى تغييب معنى "القلب"؛ ويكاد هذا التغييب يبلغ حد النسيان الكلي عند جمهور المتفلسفة منهم لشدة افتتانهم بالمنقول اليوناني، بل لضيق تصورهم لمضامين الفلسفة وآلياتها، حتى توهموا أن الفلسفة لا تمارس إلا على طريقة واحدة وهي "طريقة الإغريق"؛ أما الفقهاء والأصوليون والمتكلمون، فإنهم، إذا تعرّضوا لمفهوم "القلب"، عند تناولهم للعقل والمعقول والمعاني المعقولة في باب العلل والمقاصد، حصروا كلامهم فيه من جهة أنه محل الاعتقاد والنية؛ ثم لا يلبثون أن ينصرفوا عنه إلى كلام غيره؛ وإن هذا الانصراف منهم، وهم المشتغلون بالنظر في النصوص الدينية، ليثير العجب متى علمنا أن عدد الآيات التي ذُكر فيها لفظ "القلب" مفردا ومثنى وجمعا، تبلغ اثنتين وعشرين ومائة آية، منها الآيات التي تربط القلب بالإدراك، إحداهما الآية الكريمة : "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها".


طه عبد الرحمن؛ سؤال العمل.